يعتبره الأطباء حجة في الطب ( الإنسان ذلك المجهول ) ما نصه: إن كثرة
وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دورا عظيما في بقاء
الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس
يلتزمون الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع،
ويحدث أحيانا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى
جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه
أيضا الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد،
وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسيط الداخلي،
وسلامة القلب. إن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا. ورمضان شهر القيام، قال صلى
الله عليه وسلم ( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه
) متفق عليه وقد خلق الله النهار لننشط فيه ونبتغي من فضل الله، وخلق
الليل لنسكن فيه ونهجع، والنوم نعمة من نعم الله علينا؛ إذ في النوم راحة
لجهازنا العصبي، فلو حرم الإنسان من النوم لبضعة أيام فإن عمل الدماغ لديه
يضطرب، وفي النوم ترميم لما اهترأ من جسم الإنسان، كما يتم النمو خلاله
أيضًا، وخاصة نوم الليل، حيث تزداد الهرمونات التي تنشط النمو والترميم
أثناء الليل، وتزداد في النهار بدلاً عنها هرمونات منشطة من أجل العمل
والحركة، وفي النهار يغلب معدل الاهتراء في الجسم معدل الترميم والبناء،
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ
وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)
يونس 67، لكن الله أثنى على المتقين بأنهم كانوا قليلاً من الليل ما
يهجعون، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ* كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*
وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ* وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الذاريات15ـ 19، وهنا يثور في الذهن تساؤل،
لقد اختار الله الليل ليكون وقت الاستغراق في العبادة، لكن هل يكون ذلك
على حساب صحة الإنسان العقلية، ونحن نعلم كم هو مفيد نوم الإنسان في
الليل؟ والجواب أنه لن يكون ذلك أبدًا، فقد كشفت دراسات الأطباء النفسيين
في السنين الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة
كاملة، وعدم السماح له بالنوم حتى مساء اليوم التالي هذا الحرمان من النوم
له فعل عجيب في تخفيف اكتئابه النفسي وتحسين مزاجه حتى لو كان من الحالات
التي لم تنفع فيها الأدوية المضادة للاكتئاب، ثم أجريت دراسات أخرى ـ في
باكستان تحديدا ـ فوجدوا أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة
كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من نوم النصف الثاني من الليل، لنحصل
على القدر نفسه من التحسن في حالته وصدق العلي العطيم (كَانُوا قَلِيلا
مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)،
إذن لقيام الليل والتهجد في الأسحار جائزة فورية، وهي اعتدال وتحسن في
مزاج القائمين والمتهجدين، وفي صحتهم النفسية. وختاما.. فالصوم له فوائده
المؤكدة من الناحية النفسية، وإن كان الصوم يتعارض مع بعض المرضى بحالات
نفسية وعصبية، إلا أن الصيام لا يتعارض مع العديد من هذه الأمراض، وعلى
هذا يستطيع هذا المريض أن يصوم، بل ومن الضروري أن يفعل ذلك؛ فالصيام له
تأثيره المخفف لحدة المعاناة والآلام في كثير من الحالات النفسية
والعقلية.
كاتب المقال: د.خالد النجار
المصدر: صيد الفوائد